• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النفس والعقل موجودان

عبدالجبار الرفاعي

النفس والعقل موجودان

◄المقصود بالنفس هنا هي النفس الناطقة ـ النفس الإنسانية ـ والمقصود بالعقل، العقل في مصطلح الحُكماء وليس عقل الإنسان، بمعنى هو العقل الموجود في العالم العلوي، في الرتبة العليا من عالم الإمكان كما يرى الحُكماء، لأنّهم قالوا بأنّ عالم الإمكان متدرج يبدأ من عالم الطبيعة ـ عالم الناسوت ـ أو عالم المادّة، وتكون أعلى مرتبة فيه هي عالم العقل أو عالم الجبروت، وعالم العقل كما قالوا: هو مجرد في ذاته وفي فعله، وخالف في ذلك المتكلّمون فقالوا المجرد ذاتاً وفعلاً هو الواجب تعالى.

 

الدليل على وجود النفس:

النفس مجردة في ذاتها وغير مجردة في فعلها، لأنّها متعلقة في فعلها بالمادّة، أي أنّها جوهر مجرد عن المادّة ذاتاً متعلّق بها فعلاً، فهنا في التعريف أخذت ثلاث خصوصيات:

الأولى: كون النفس جوهراً لا عرضاً.

الثانية: كون هذا الجوهر مجرداً بذاته عن المادّة.

الثالثة: كون هذا الجوهر المجرد بذاته متعلقاً في فعله بالمادّة.

أمّا كون النفس جوهراً فلأنّ الصورة النوعية للجوهر لا يمكن أن تكون عرضاً، فما يقوّم النوع الجوهري لا يمكن أن يكون عرضاً، بل لابدّ أن يكون جوهراً، والنفس هي الصورة النوعية للإنسان، فلابدّ أن تكون النفس جوهراً لأنّه لما كانت النفس هي الصورة النوعية للإنسان، إذاً هي الفصل، ولكن باختلاف الاعتبار، والفصل مقوّم للنوع الجوهري، ولا يمكن أن يكون مقوّمُ الجوهر عرضاً، وإنما لابدّ أن يكون مقوّم الجوهر جوهراً.

أمّا كون النفس مجردة في ذاتها عن المادّة، فبرهنوا على ذلك من أنّ الصورة العلمية مجردة عن المادّة، وإلّا فلو لم تكن مجردة عن المادّة للزمّ ما أُورد من إشكال على الوجود الذهني، وهو انطباع الكبير في الصغير.

وإذا كانت الصورة العلمية مجردة عن المادّة وحاضرة في النفس، فلابدّ أن يكون هذا المجرد حاضراً لأمر مجرد، لأنّه لا يمكن أن يكون الأمر المجرد حاضراً لدى أمر مادّي، لأنّ المادّة بذاتها غائبة حتى عن نفسها، وليست حاضرة لنفسها، فأجزاء المادّة عادةً غائب بعضها عن بعضها الآخر، أي المادّة لا حضور لها لذاتها.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن تكون النفس مادّية، وإنّها لابدّ أن تكون مجردة، حتى تكون الصورة العلمية المجردة عن المادّة حضارة عند النفس المجردة عن المادّة.

ولهذا نقول: إنّ النفس مجردة عن المادّة، وإلّا لو كانت مادّية للزمّ من ذلك أن يكون المجرد، وهو الصورة العلمية، حاضراً لأمر مادّي وهو محال.

أمّا كون النفس محتاجة إلى المادّة في فعلها فهذا الأمر واضح، لأنّ الإنسان عادةً في فعله، يرى بعينه، يأكل بيده، يسمع بأذنه، يمشي برجله، وهكذا.

 

الدليل على وجود العقل:

العقل مجرد من المادّة بفعله وذاته، وبيان ذلك أنّ هناك أربع مراتب للعقل، وهي:

الأولى: المرتبة التي يكون فيها العقل بالقوّة، أي يكون فيه استعداد لكي يتعقل المعقولات والصور العلمية، فالطفل في اليوم الأوّل لولادته، ليس لديه صور علمية، أي لا يوجد لديه علم حصولي، ولكن لديه استعداد وقابلية ليكون عالماً بالأشياء. ولذلك لو لاحظناه بعد مدّة فسوف نجد لديه الكثير من الصور العلمية، فهذه المرتبة التي تمثل الاستعداد لقبول الصور تسمى بالعقل الهيولاني، لأنّه يشبه الهيولى، فهي تشتمل على استعداد وقابلية لحلول الصور فيها، كذلك العقل في هذه المرحلة هو خالٍ من الصور، لكن فيه استعداد لقبول الصور العلمية. بمعنى يكون العقل في هذه المرحلة بالقوّة بالنسبة لقبول الصور.

ثم بعد ذلك تنطبع الصور العلمية في العقل بشكل تدريجي فبعد مدّة نجد أنّ عقل الطفل قد حصل كثيراً من الصور، فمَن الذي أفاض هذه الصور؟ أهي حادثة أم موجودة سابقاً؟ أي مَن الذي أوجد الصور العلمية لدى هذا الطفل بعد بلوغه سنتين مثلاً؟

الجواب: إنّها لم تكن موجودة سابقاً، بل الموجود هو مجرد استعداد، فهذه الصور تحتاج إلى علة في حدوثها، وهذه العلة توجد فيها عدة احتمالات.

الأوّل: أنّ الموجد لهذه الصور هو النفس.

الثاني: أنّ الموجد لها أمر مادّي.

الثالث: أنّ الموجد للصور أمر مجرد عن المادّة ذاتاً وفعلاً.

أمّا الاحتمال الأوّل فواضح البطلان، لأنّ النفس في اليوم الأوّل كانت فاقدة للصور، وفاقد الشيء لا يُعطيه. كما أنّ النفس في هذه المرتبة تكون بالقوّة، مجرد استعداد، لا فعلية لها.

وقد يقال إنّ المانح للصور أمر مادّي، فنقول لا يمكن هذا، لأنّ المادّة عادةً لا تُعطي وجود الشيء، بل يُمكن أن تُعطي حركة الشيء، وحركة الشيء غير وجود الشيء.

وعلى هذا الأساس قالوا: إنّ الفاعل نوعان:

فاعل طبيعي: وهو الذي يُعطي الحركة.

وفاعل إلهي: وهو الذي يُعطي الوجود. المادّة هي الفاعل الطبيعي، الذي يعطي الحركة لا الوجود. فلو لاحظنا البرتقالة، عندما يتغير لونها وطعمها، فأنّ الذي يُعطي البرتقالة هذا التغير هو المادّة، لأنّها تُعطي الحركة.

أمّا الموجد فهو الفاعل الإلهي. ولما كانت الصور العلمية مجردة، والمجرد أقوى من المادّي، فكيف تكون المادّة الضعيفة علة للمجرد الذي هو أقوى منها، والضعيف لا يُمكن أن يكون علةً لمن هو أقوى منه.

وعلى هذا الأساس إذا بَطُلَ احتمال كون النفس هي المفيضة للصور العلمية، وإذا بَطُلَ الاحتمال الآخر وهو كون المادّة هي المفيضة للصور العلمية انحصر الأمر في أنّ الموجد للصور العملية أو مفيضها هو أمر مجرد من المادّة في ذاته وفعله، وأعلى من النفس، وهذا هو المصطلح عليه بالعقل، كما قال الحُكماء.

البرهان الثاني:

من أنّ المادّة محتاجة إلى الصورة، والصورة محتاجة للمادّة. والمادّة محتاجة إلى الصورة في تحصلها ووجودها، والصورة ليست هي العلة التامة أو العلة الفاعلية، وإنما هي شرط وجود المادّة، والعلة الفاعلية للمادّة ليست هي النفس بل هو العقل.►

 

المصدر: كتاب دروس في الفلسفة الإسلامية

ارسال التعليق

Top